الإيغاد- من مكافحة الجفاف إلى إدارة الأزمات السياسية في القرن الأفريقي

المؤلف: د. محمد حمد11.20.2025
الإيغاد- من مكافحة الجفاف إلى إدارة الأزمات السياسية في القرن الأفريقي

منذ اندلاع شرارة الأزمة السودانية، وتصاعد وتيرة الحرب الضروس في ربوع البلاد منذ الخامس عشر من أبريل/نيسان عام ألفين وثلاثة وعشرين، أعلنت الهيئة الحكومية للتنمية "إيغاد"، الجامعة لدول القرن الأفريقي العظيم، عن طموحها للعب دور محوري في الوساطة بين الجيش السوداني وقوات الدعم السريع المتمردة. تسعى "إيغاد"، التي تحتضن في كنفها دولًا مثل الصومال، وجيبوتي، وإثيوبيا، والسودان، وإريتريا، بالإضافة إلى أوغندا وكينيا، إلى إخماد نار الحرب والوصول إلى تسوية سياسية شاملة، إلا أن تحركاتها قد شابها الغموض والبعد عن الأسس المنهجية المتعارف عليها في عمل المنظمات الحكومية.

ومع انبلاج خيوط المبادرات، بات جليًا ميل "إيغاد" وانحيازها الظاهر لقوات الدعم السريع، المتهمة بالتمرد الصارخ على الدولة ومؤسساتها، بما في ذلك الجيش الوطني، الذي يُفترض أن تكون تلك القوات جزءًا لا يتجزأ منه، وخاضعة لتسلسله القيادي ولوائحه القانونية. هذا الانحياز أثار سيلاً من التساؤلات المشروعة حول الدوافع الخفية والأجندة الحقيقية التي تحرك دفة هذه المنظمة الإقليمية.

في هذه السلسلة من المقالات، نسعى جاهدين لإلقاء الضوء الكاشف على الجوانب الخفيّة وغير المرئية لهذه المنظمة الإقليمية، واستكشاف ظروف نشأتها المليئة بالتحديات، وتقلب أدوارها في معترك السياسة، وتحديد حدود صلاحياتها بدقة، والكشف عن ارتباطاتها الدولية المتشعبة. كما سنحاول سبر أغوار الدوائر الخفية والأيادي الموجهة التي تحركها من وراء الستار، وتحديد الجهة التي تبلور رؤيتها تجاه الأمن الإقليمي للدول الأعضاء.

رياح النيوليبرالية

استغلت الدوائر النيوليبرالية ذات النفوذ الطاغي في منظمة الأمم المتحدة التحولات المناخية العاصفة في النظام الدولي، والذي بدأ يميل نحو الأحادية القطبية مع تبوّء الرئيس السوفياتي ميخائيل غورباتشوف سدة الحكم في عام 1985. انطلقت تلك القوى، مستترة برداء الأمم المتحدة، في لعب أدوار أكثر جرأة وتدخلاً سافرًا تجاه الجنوب، والدول النامية التي تتوق إلى المساعدات الغربية والدولية، وفرضت بصورة قاطعة نظام المشروطية المجحفة إزاء كل المساعدات الممنوحة. كان جوهر تلك المشروطيات، سواء كانت أحادية أو متعددة الجوانب، يتمثل في الضغط الهائل على الدول لتبني النظام الليبرالي بكل تفاصيله، والابتعاد القسري عن الاشتراكية والشيوعية. تزامن ذلك مع بداية عقد الثمانينيات من القرن الماضي، حيث ضرب الجفاف المدمر والمجاعة المروعة أجزاء واسعة من منطقة القرن الأفريقي، مما ألحق أضرارًا فادحة بجميع دوله، وحظي موضوع الجفاف والمجاعة بتغطية إعلامية دولية واسعة النطاق.

كانت الأمم المتحدة في جلستها الخامسة والثلاثين لعام 1980 قد اتخذت القرار رقم 35-90، كرد فعل على التعاطف العالمي المتزايد مع الآثار الكارثية لموجة الجفاف والمجاعة تلك. لكن القرار اشترط على دول القرن الأفريقي أن تفكر بمنطق إقليمي متكامل لمعالجة آثار الجفاف، وأن تنسق جهودها فيما بينها، كشرط أساسي لتلقي أي مساعدة من المنظمة الدولية والمجتمع الدولي بأسره.

وقد ورد في الفقرة السادسة من القرار النص التالي: "تنصح حكومات دول الإقليم المتضررة من الجفاف بالتفكير مليًا في تأسيس منظمة حكومية يُناط بها مسؤولية الدعم والتنسيق لجهود الحكومات في مساعيها الحثيثة للقضاء المبرم على آثار الجفاف والكوارث الطبيعية الأخرى، والتصدي الحاسم للتحديات التي ستواجه التعافي والتأهيل في المديين المتوسط والطويل".

كانت الحكومات المتواجدة في دول القرن الأفريقي موزعة الانتماء بين معسكري الحرب الباردة، وهو الأمر الذي أدى في نهاية المطاف إلى فتور فكرة منظمة الإيغاد طوال حقبتي الثمانينيات والتسعينيات من القرن الماضي

البحث عن أب

الجدير بالذكر أن فكرة تأسيس منظمة حكومية في حد ذاتها لم تنبع من صميم هذه الحكومات، بل كانت شرطًا ضروريًا لتلقي العون الخارجي "المخادع"، وكانت هذه المعضلة الأكبر التي واجهت عمل وتطور المنظمة. لم تنبثق المنظمة عن قناعة راسخة وإيمان عميق بضرورة العمل الإقليمي المشترك من جانب الأنظمة الحاكمة، كما حدث في نشأة وتطور الاتحاد الأوروبي، بل تم اصطناعها استجابة لشرط تلقي المساعدات الدولية من الدول المانحة، وتم ربط المساعدات بالتوجه والالتزام الإقليمي لهذه الدول، والذي أُريد له أن يدعم الترتيبات النيوليبرالية حول العالم، حيث يبقى حل الأزمات خارج أيدي السلطات الوطنية، وذلك من خلال ترتيبات إقليمية تخضع وتنسق مع المركز النيوليبرالي، وتأخذ بذلك شرعية دولية تستعملها كعصا غليظة في وجه الأنظمة المخالفة للتوجه الليبرالي.

بناءً على ذلك القرار، تم إنشاء وحدة داخل برنامج الأمم المتحدة الإنمائي للإشراف الدقيق على تمرير المساعدات للمناطق المنكوبة، والتنسيق والتعاون الوثيق مع حكومات المناطق المتضررة للقيام بسياسات وطنية وإقليمية فعالة؛ لدرء آثار الجفاف، وتعزيز التنمية الاجتماعية والاقتصادية المستدامة. كان أمر المساعدات نفسه تطوعيًا، يأتي من مساهمات سخية تقدمها دول ومنظمات بصورة غير ملزمة، على أن يتابع ذلك المجلس الاقتصادي والاجتماعي التابع للأمم المتحدة.

الأمر الآخر الجدير بالذكر هو أن التركيز في هذا الجهد الإقليمي لم يكن منصبًا على البعد السياسي، وإنما على البعدين الاقتصادي والتنموي. وهو ما أشار إليه الرئيس الإريتري متهكمًا، بأن المنظمة قد أُنشئت من أجل مكافحة الجراد والتصحر، لكن رسالتها تغيرت فجأة دون أن تحقق أي نجاح يذكر في المهمة الأولى طوال عشر سنوات مضت، وذلك لأسباب تتعلق بالدول المتأثرة بالجفاف نفسها، إضافة إلى أسباب إقليمية ودولية أخرى.

فقد شهدت فترة مطلع الثمانينيات تصعيدًا حادًا في الحرب الباردة بين الغرب، وخاصة إدارة الرئيس الأميركي رونالد ريغان وحلفائه، وبين الاتحاد السوفياتي، مما ألقى بظلاله القاتمة على أولويات السياسة الخارجية لتلك الدول المعنية بالتنمية والجفاف. كانت حكومات دول القرن الأفريقي موزعة في تبعيتها لأحد قطبي الحرب الباردة، مما أدى في نهاية المطاف إلى خمول فكرة منظمة الإيغاد طوال حقبتي الثمانينيات والتسعينيات من القرن الماضي.

التمويل المشروط

بينما كان الاتحاد السوفياتي في حالة انهيار وتراجع مستمر، تعللت الدول الغربية المانحة بأنها عاجزة عن مساعدة النظام الماركسي في إثيوبيا، أو دكتاتورية العشائر في الصومال، أو النظام الإسلامي القمعي في السودان. فمن الدعم الذي التزم به مؤتمر للمانحين عام 1987، والذي بلغ أكثر من مليار دولار، لم تحصل برامج الأمن الغذائي ومكافحة الجفاف إلا على 10% و5% على التوالي.

كما لم يتم تمويل الدراسات التي أُعدت حتى بعد عشر سنوات من هذا التاريخ، حيث رفضت الدول المانحة دفع مبلغ خمسمئة مليون دولار للإيغاد، كان من المفترض أن يخصص جزء منه لتمويل طريق بري يربط أغنى منطقة لإنتاج الحبوب بأكثر المناطق حاجة ماسة لهذه الحبوب في إثيوبيا وإريتريا، وهو طريق الحمرة - القلابات - القضارف، وذلك بذريعة عدم أهمية المشروع إقليميًا. لكن الدافع الحقيقي وراء الرفض هو وجود نظام إسلامي في الخرطوم، وبذلك تبخر أكبر مشروع للأمن الغذائي لمنطقة القرن الأفريقي، التي عانت طويلًا من الجفاف القاتل والجوع المدقع.

هنا تبرز بجلاء أهمية الأجندة الدولية على الأجندة الإقليمية في منظمة الإيغاد منذ البداية، لكن هذا المنحى لم يجد أي اعتراض يذكر من رؤساء دول المنظمة؛ لأن أولوياتهم الأمنية كانت مرتبطة بالجهات المانحة أكثر من ارتباطها بمصالح الإقليم الإستراتيجية، وكان ذلك بمثابة كعب أخيل في موضوع ترقية الأمن الإقليمي.

فالأوضاع الاقتصادية والتنموية الصعبة لم تكن أكثر تهديدًا للدكتاتوريات في الإقليم من التحديات الأمنية والعسكرية، التي كانت أكثر إلحاحًا، ومتقدمة في سلم الأولويات على المجاعة والجفاف. ففي عهد الرئيس السوداني محمد جعفر نميري (1969-1985) اندلع تمرد شرس في جنوب السودان عام 1983، والذي تسبب في سقوط نظامه جزئيًا في عام 1985.

بينما شكلت حركات الكفاح المسلح الصومالية والإريترية والأرومية والتقراوية تحديًا كبيرًا لنظام الزعيم الإثيوبي منغستو هايلي ماريام (1987- 1991)، لتنجح في إسقاطه في عام 1991 بعد أن فقد الدعم السوفياتي، وكذلك الرئيس الصومالي محمد سياد بري، الذي كان يريد إدخال إصلاحات دستورية شاملة لإنقاذ موقفه المتأزم من تمرد العشائر والحركات المسلحة الصومالية، مما اضطره للتقارب مع غريمه التاريخي منغستو بوساطة إيطالية تحت مظلة منظمة الإيغاد. لكن تلك الاتفاقية لم تنجح، إلا بسقوط سياد بري وهروبه المذل من البلاد بعد أن اقتحمت حركات التمرد البلاد قادمة من إثيوبيا؛ خوفًا من تقارب منغستو مع سياد بري.

الأحادية القطبية

مع ظهور سياسة الإصلاح والانفتاح في الاتحاد السوفياتي، والتي انتهت بتفككه المدوي في ديسمبر 1991، بدأ نفوذ الولايات المتحدة والدول الغربية الحليفة لها في الصعود والازدهار. وكانت أولى الإشارات الدالة على ذلك عندما أعلن الرئيس جورج بوش الأب، بعد انتهاء حرب تحرير الكويت، أن نسقًا دوليًا جديدًا يقوم على قيم الديمقراطية السامية وحقوق الإنسان الراسخة وحماية الأقليات المضطهدة قد بدأ يتشكل بقيادة بلاده.

كانت دلالة ذلك أن قادة في منطقة القرن الأفريقي سرعان ما وجدوا أنفسهم جزءًا لا يتجزأ من ذلك النسق الدولي الجديد الذي تقوده الولايات المتحدة، وعلى رأسهم الرئيس الأوغندي يوري موسيفيني، وبدرجة أقل رئيس الوزراء الإثيوبي السابق ميليس زيناوي.

أما القادة الجدد في السودان، بزعامة الرئيس السوداني السابق عمر حسن أحمد البشير (1989-2019)، الذي تولى السلطة إثر انقلاب عسكري قادته الجبهة الإسلامية في السودان، وظهور الإسلاميين في الصومال لاحقًا لدخول قوات محمد فارح عيديد للعاصمة بعد سقوط نظام محمد سياد بري، فقد تم تصنيفهم وفق النسق الجديد دولًا أو جماعات مارقة.

وكانت أول محاولة لمواجهة ما اعتبرته أميركا تهديدًا وجوديًا لها في هذا الصدد هو شنها عملية عسكرية واسعة النطاق في الصومال سُميت "إعادة الأمل"، إلا أنها باءت بالفشل الذريع وتكبدت فيها الولايات المتحدة خسائر عسكرية فادحة، مما اضطرها للانسحاب المهين والتفكير مليًا في طريقة أخرى لمواجهة ذلك الخطر الداهم.

فكان التفكير الاستراتيجي في تأسيس قوة أفريقية ضاربة بموارد أميركية هائلة، فوقع الاختيار على الاتحاد الأفريقي والإيغاد كآليات فعالة لخدمة المصالح الأميركية والغربية بصورة غير مباشرة، وذلك من خلال ما يعرف بسياسة العصا والجزرة، مع استخدام سلاح الإغراء والتمويل السخي. وهنا كانت المعضلة الأولى للأمن الإقليمي، كما تفهمه الدول الغربية، هو شبح الإسلاميين المخيف وليس الجفاف والتصحر المدمر، ولا جوع شعوب القرن الإفريقي، وهذا كان السبب الأهم في تحول الهيئة الحكومية للتنمية (إيغاد) من مهمتها النبيلة في الإنعاش الاقتصادي وإعادة التأهيل التنموي إلى منظمة سياسية محنكة لإدارة ملفات الأزمات السياسية المعقدة في القرن الأفريقي.

سياسة الخصوصية

© 2025 جميع الحقوق محفوظة